دراسات إسلامية

 

مميزات الشعر الجاهلي

بقلم:  أسامة  نور (*)

 

 

الشعر: هو كما يقول الزيّات الكلام الموزون المُقَفَّىٰ المعبر عن الأخيلة البديعة والصور المؤثرة البليغة، وقد يكون نثرًا كما يكون نظمًا. والشعر أقدم الآثار الأدبية عهدًا، لعلاقته بالشعور، وصلته بالطبع، وعدم احتياجه إلى رقي في العقل، أو تعمّق في العلم، أو تقدم في المدنية؛ ولكن أوليته عند العرب مجهولة، فلم يقع في سماع التأريخ إلاّ وهو مُحْكَمٌ مُقَصَّدٌ، وليس مما يسوغ في العقل أن الشعر بدأ ظهوره على هذه الصورة الناصعة الرائعة في شعر «المهلهل بن ربيعة» و«امرئ القيس»، وإنما اختلفت عليه العُصُر، وتقلّبت به الحوادث، وعملت فيه الألسنة، حتى تهذّب أسلوبُه وتشعبّت مناحيه. وأَغْلَبُ الظنّ أن العرب خَطَوْا من المُرْسَل إلى السجع، ومن السجع إلى الرجز، ثم تدرّجوا من الرجز إلى القصيد؛ فالسجعُ هو الظهور الأول من أطوار الشعر توخّاه الكهان مناجاةً للآلهة، وتقييدًا للحكمة، وتعميةً للجواب، وفتنة للسامع. وكهانُ العرب ككهان الإغريق، هم الشعراء الأوّلون زعموا أنهم مهبط الإلهام وأنجياء الآلهة، فكانوا يسترحمونها بالأناشيد ويستلهمونها بالأدعية، ويخبرون الناس بأسرار الغيب في جُمَل مُقَفَّاة مُوَقَّعَة أطلقوا عليها اسم «السجع» تشبيهًا لها بسجع الحمامة، لما فيها من تلك النغمة الواحدة البسيطة. فلما ارتقى فيهم ذوقُ الغناء وانتقل الشعر من المعابد إلى الصحراء، ومن الدعاء إلى الحداء اجتمع الوزن والقافية، فكان الرجز ثم تعدّدت الأوزان بتعدد الألحان، فكان للحماسة وزن، وللغزل وزن، وللهزج وزن، وهكذا إلى سائر الأوزان التي حصرها «الخليل بن أحمد» في خمسة عشر وزنًا، سمّاها بحورًا، فنرى أن الشعر مصدره الغناء، وفي أخذهم السجع من هديل الحمامة، والرجز من إيقاع مشي الناقة، ولفظ الشعر من (شير) العبرية، بمعنى الترتيلة أو التسبيحة، وقولهم إلى الآن: أنشد الشعر بمعنى ألقاه ما يؤيد ذلك.

فنونه وأغراضه:

     أنواع الشعر ثلاثة، شعر غنائي أو وجداني وهو أن يستمد الشاعر من طبعه وينقل عن قلبه، ويعبر عن شعوره؛ وشعر قصصي وهو نظم الوقائع الحربيّة والمفاخر القوميّة في شكل قصة، كالإلياذة والشاه نامة؛ وشعر تمثيلي وهو أن يعمد الشاعر إلى واقعة، فيتصور الأشخاص الذين جرت على أيديهم ويُنْطِق كلاًّ منهم بما يناسبه من الأقوال: وينسب إليهم ما يلائمه من الأفعال.

     والغنائي أسبق هذه الأنواع إلى الظهور؛ لأن الشعر أصله الغناء كما علمتَ، والإنسان إنما يشعر بنفسه قبل أن يشعر بغيره ويتغنى بعواطفه قبل أن يتغنى بعواطف سواه. ولما كان الشعر مادّتُه الخيال، والخيال غذاؤه الحس، والعربي لا يرى من المناظر غير وجوه البادية، ولا يسمع من الأقاصيص إلاّ البطولة والحرب، ولا يعرف من الجمال إلا جمال المرأة، أبدع في وصف ما شاهده من حيوان وسهل وجبل، وأجاد التعبيرَ عن عاطفة الحماسة يوم الخصومة والجدل، وتَفَنَّنَ ما شاء له الحب في التشبيب والغزل، فالشعر العربي غنائي محض لا يُعْنَىٰ الشاعر فيه إلاّ بتصوير نفسه والتعبير عن شعوره وحسه، والعواطف تتشابه في أكثر القلوب، ويكاد التعبير عنها يتفق في أكثر الألسنة؛ ومن ثم نشأ فيه التكرار وتوارد الخواطر، والسرقة ووحدة الأسلوب وتشابه الأثر، وكان من الحق أن يقول: زهير

ما أرانا نقـول إلا معــارًا

أو معادًا من لفظنا مكرورًا

     أما الشعر القصصي والتمثيلي فلا أثر لهما فيه؛ لأن مزاولتهما تقتضي الروية والفكرة، والعرب أهل بديهة وارتجال وقد شُغِلُوا بأنفسهم عن النظر فيمن عداهم، وتفتقر العرب إلى التحليل والتطوير، وهم أشد الناس اختصارًا للقول، وأقلّهم تعمقًا في البحث، وقد قلّ تعرّضهم للأسفار البعيدة والأخطار الشديدة، وحَرَمَتْهم طبيعةُ أرضهم، وبساطةُ دينهم، وضيق خيالهم، واعتقادهم بوحدانية إلههم، كثرةَ الأساطير، وهي من أغزر ينابيع الشعر القصصي، فزخرت بحور الشعر العربي بالفخر والحماسة والمدح والهجاء والعتاب والغزل والوصف والاعتذار والحكمة، وخلا مع اتّساعه وتشعّب أغراضه من الملاحم المُطَوَّلَة التي تعلن المفاخرَ القوميّةَ وتُشِيد بذكر الأبطال والفروسية كالإلياذة لليونان، والإينياد للرومان، ومهابهاراته للهنود، والشاه نامة للفرس.

مميزاته:

     وُعُورة الصحراء وخُشُونة العيش وحريّة الفكر وطبيعة الجو وسذاجة البدو، كلُّ أولئك طبع الشعر الجاهلي بطابع خاص ومازه بسمة ظاهرة، فمن خصائصه الصدق في تصوير العاطفة وتمثيل الطبيعة؛ فلا تجد فيه كلفًا بالزخرف ولا تكلفًا في الأداء؛ فكثر لذلك الإيجازُ، وقلّ المجاز، وندرت المبالغة، وضعفت العناية بسياق الفكر على سنن المنطق واقتضاء الطبع، فعلائقُ المعاني واهنةٌ واهية، ومساق الأبيات مُفَكَّكٌ مضطرب، فإذا حذفتَ أو قدّمتَ أو أخّرتَ لا تشعر في القصيدة بتشويه أو نقص. وذلك لأن البدو بطبيعتهم يُعْوِزُهم النظرُ الفلسفيُّ، فلا يرون الحوادث والأشياء إلاّ مُجَرَّدَةً لا ينظمها سلكٌ ولا تجمعها علاقةٌ؛ ومن ثم كانت وحدة النقد عند أدباء العرب البيت لا القصيدة، ومنها استعمال الغريب، ومتانة التركيب، وجزالة اللفظ، لتأثرهم بمظاهر الغلظة والقوة البادية في طباعهم ونظام اجتماعهم والابتداء بذكر الأطلال والديار؛ لأنهم أهل خيام ومضارب وأُلاَّفُ انتجاع وظعن؛ فلا يكاد الشاعر يمرّ بمكان حتى يذكر عهدًا قضاه فيه، وأحبة ترحّلوا عنه، فتهيِّجه الذكرى، فيحييها ويبكيها. والشعر الجاهلي على الجملة كثير التشابه، قليل التنوع، يجرى في حلبة واحدة من السماع والتقليد.

أهمُّ شعرائه:

     طرفة بن العبد، عنترة بن شداد، امرؤالقيس، لبيد بن ربيعة، النابغة الذبياني، عمرو بن كلثوم، دريد بن الصمة.

حياة بعض منهم:

طرفة بن العبد:

     هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن بكر بن وائل الشاعر المشهور، و«طرفة» لقبه الذي عُرِف به، واسمه عمرو، وقد عاش الشاعر يتيمًا، وهو من الطبقة الرابعة عند «ابن سلام»، ويقال: هو أشعر الشعراء بعد امرئ القيس، وقد أجمعت المصادر على أنه أَحْدَثُ الشعراء سنًا وأقلهم عمرًا، كان في بيئته كلها شعر، فالمرقش الأكبر عمّ والده، والمرقش الأصغر عمه، والمتلمس خاله، وأخته الخرنق شاعرة أيضًا، قُتِلَ شابًّا بحكم الملك عمرو بن هند؛ لأنه هجاه، قيل: ابن العشرين عامًا، ويقال: إنه من أوصف الناس للناقة. وقد سئل لبيد عن أشعر الناس، فقال: الملك الضليل، ثم سئل: ثم من؟ قال: الشاب القتيل، يعني طرفة... وللشاعر ديوان صغير مطبوع، توفي نحو سنة 60 قبل الهجرة 564م.

عنترة بن شداد:

     عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية العبسي، من مضر، أشهر فرسان العرب في الجاهلية، وكان أشجع العرب وأشدّها، وأعزّهم نفسًا، يُروى عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما وُصِفَ لي أعرابي قطّ فأحببت أن أراه إلا عنترة». ولم يدرك الإسلام، وكان لايقول من الشعر إلا البيتين والثلاثة حتى سابَّه رجل من بني عبس فذكر سواده وسواد أمه وعَيَّرَه بذلك، وبأنه لايقول الشعر. فكان أول ما قال من قصائد معلقته، وهي أجود شعره يسمونها المُذهَّبَة. وكان قد شهد حرب داحس والغبراء، فحسن فيها بلاؤه.

امرؤالقيس:

     امرؤ القيس بن حجر بن حارث بن عمرو الكندي، يقال له: الملك الضليل وذو القروح، وهو من الطبقة الأولى، طرده أبوه لمّا صنع الشاعر بفاطمة ما صنع وكان لها عاشقًا وأمر بقتله، ثم عفا عنه، ونهاه عن قول الشعر؛ ولكنه نظم بعدئذ، فبلغ ذلك أباه فطرده، وبقي طريدًا إلى أن وصله خبر بقتل أبيه، فقال: «ضَيَّعَني أبي صغيرًا، وحَمَّلَنِي دمه كبيرًا، لا صحو اليوم ولا سكر غدًا، اليوم خمر، وغدًا أمر». وأخذ يطلب ثأر أبيه، يستنجد القبائل، إلى أن وصل إلى السموأل، والحارث الغساني، وقيصر الروم الذي ضمّ إليه جيشًا كثيفًا، فوشى رجل من بني أسد بامرئ القيس إلى قيصر، فبعث إليه بحلة وشيٍ مسمومةٍ، فلما وصلت إليه لبسها، فأسرع فيه السم، وسقط جلده، ومات بأنقرة. وله أشعار كثيرة.

لبيد بن ربيعة:

     هو لبيد بن ربيعة بن مالك العامري، قتل والده بنو أسد في حرب بينهم وبين قومه. كان من شعراء الجاهلية وفرسانها، وهو من الطبقة الثالثة، أدرك الإسلام، ووفد على النبي –صلى الله عليه وسلم-، ويُعَدّ من الصحابة ومن المؤلفة قلوبهم، توقف عن نظم الشعر بعد إسلامه، وقيل: إنه لم يقل في الإسلام إلا بيتًا واحدًا، هو:

الحمـدُ لله إِذْ لـم يَـأْتِني أَجَـــلِي

حتى لَبِستُ من الإسلام سِرْبَالاً



(*)      المتخرج من الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند والحامل لشهادة الماجستير في الفلسفة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دهلي.

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الأولى 1436 هـ = فبراير - مارس 2015م ، العدد : 5 ، السنة : 39